Monday, May 25, 2009

الثمن - د هبة رؤوف عزت



كتبت الدكتورة / هبة رءوف عزت هذا المقال فى جريدة الدستور بتاريخ 19/04/ 2009 وقد رأيت أنه لابد من وضعه هنا لأنه يمثل فى رأيى مختصر وجهة النظر الإسلامية فى التعامل مع أى نظام ليس من اختيار الشعب


(المقال)

د.هبة رءوف عزت
heba.raouf@gmail.com

ننسي أحياناً أن خياراتنا في الحياة لها ثمن، اختيار الخنوع له ثمن، وثمن فادح في أحيان كثيرة. الشعوب الذليلة التي اختارت أن تنحني للطاغية كي «تعيش أيامها» و«تربي عيالها» تكتشف مع الأيام فقر الأيام وفساد العيال، ببساطة لأن الأيام إن لم تكن كريمة فهي للموت أقرب منها للحياة، وأنظر لوجوه الناس في الشوارع، ولهذه الضحكات المرة وتلك النظرات الذليلة وتلك الجباه المحنية وتلك القلوب العمياء.أما العيال فإن الناس تدرك بعد فوات الأوان أنها إذا لم تنشأ حرة كريمة في مجتمع كريم فإنها تعيد إنتاج الخنوع من ناحية،

وتتعامل مع الأجيال السابقة بدون أي نسق أخلاقي، فالأخلاق ليست غض البصر عن المحرمات وتغطية شعور السيدات، الأخلاق معني أكبر من هذا، الأخلاق هي رسالة الإسلام كلها (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. وحين نربي أبناءنا علي الخضوع الذليل، والتدين العليل والعقل المستقيل، فإن الحصاد سيكون مرّاً علينا قبل أي أحد. فلا نحن عشنا حياة تستحق أن تعاش ولا نحن فزنا بأبنائنا الذين أرضعناهم الذل وأروثناهم البؤس والجبن والارتعاش!

بالطبع الحرية لها ثمن، ثمن ندفعه غالياً أيضاً أحياناً، ففي مجتمع تم فيه التطبيع مع الظلم وترسيخ ثقافة الكذب والخداع، الكذب علي النفس والخداع للذات، يصبح الخروج علي هذا التواطؤ جريمة، يدفع المرء ثمنها من سمعته، فيتهم بالتمرد والجموح ..بل والجنون. وليست هذه التهمة علي حزب الجبناء ببعيدة، فقد اتهمت قريش رسول الله صل الله عليه وسلم عند بدء الدعوة المحمدية بالجنون، وبالرغبة في الظهور والزعامة، وفاوضته، وحاربته، وأجبرته علي الهجرة من أحب أرض الله إليه. لا يقبل مجتمع الذلة أن يخرج عليه من يسمعه الحق، أو ألا يرضي البعض لأنفسهم الاستمرار في الكذب والخداع وأن تمضي أعمارهم في دورة عبثية من إعادة إنتاج التعاسة.

وقد يكون ثمن البوح وألا يخاف المرء في الحق لومة لائم وأن ينضم لحزب الصادقين هو :الوحدة.

فهذا قدر من يخرج علي القوم بكلمة الحق، أن يشعر بالوحدة، وله في دعاء رسول الله صلي الله عليه وسلم في الطائف.. سلوي:

«اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني..»..لكن الله ناصره- ولو بعد حين.

في المجتمعات التي تربَّت علي الاستبداد، وتم تدجينها حتي رضخت للاستعباد تسود ثقافة الخوف، وثقافة الإنكار.

صاحب السلطة - أياً كان مستواها في هرم الاستبداد الاجتماعي ثم السياسي، ينشر الخوف. والتوحيد خلاصته «فلا تخشوهم..واخشوني»..لأن الخوف مناقض التوحيد والإسلام لله واليقين بالقدر..الخوف نقيض لا إله إلا الله..والمؤمن في وحدته يجد الأنس في مرضاة الله والتوكل عليه..ويسأل الله أن يثبت فؤاده، كي يستطيع تغيير العالم.

مشكلة الخوف أن أحداً لا يحب الاعتراف به، هذا الوهن الذي يتسلل للقلب الشقي، لكن الناس تريد أن تزعم أنها قوية الإرادة والعزم، فكيف يتم ملء هذه الفجوة بين صورتهم الذهنية عن أنفسهم وحقيقة جبنهم وخوفهم من مواجهة الحق وتغيير الواقع وتحدي ثقافة العشيرة التي وجدوا عليها آباءهم؟ الحل أن يستبطنوا التقليد ويزعموا التجديد، وينكروا مأزقهم ويتجاهلوا ازدواجيتهم وانفصام شخصيتهم، ويسقطوا كل هذه التهم علي الآخرين..فيعلو صوتهم كما علا صوت أبي جهل..يقولون لمن يرفع صوته بالحق «تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا!» ثم يسلمونه لسفهائهم يؤذونه بألسنة حداد..

قديماً كانت العشائر قادرة علي أن تدفن الرجل في الرمل فلا يظهر إلا رأسه، واليوم تنفيه العشيرة وتتهمه بالثورة وتدفن هي رأسها في الرمال كالنعام، وقديماً كانوا يطعنون سمية في موضع عفتها ويمزقونها..أما عشائر اليوم فتعاقب المرأة التي تطالب العدل وتبوح بكلمة الحق بتمزيق قلبها وتسفيه عقلها وتشويه سمعتها الاجتماعية والإنسانية ..

حزب محمد كان حزب العدل والحرية والكرامة..أما حزب الصمت المتوحش والصف المتجيش فقد سار علي نهج إخراس صوت أبي ذر الغفاري الذي أوصاه الرسول أن يقول الحق وإن كان مراً، ورفع هذا الحزب اليوم شعارات «والله لنمنعهن»..وهي المقولة التي قالها حفيد عمر بن الخطاب ردا علي من ذكره بوصية رسول الله بألا يتم منع النساء من المساجد.

اليوم لدينا حزب «والله لنمنعهن»..وجبهة ..«والله لنحبسهن»..وكتائب «والله لنخرسهن»..

وأمام التخويف تتبع الغالبية ثقافة الإنكار..لأنها هي التي تحفظ لها صورتها أمام نفسها وأمام الناس..

إنكار أن هناك مظالم تقع، وإنكار أن هناك من يتم منعهم ومنعهن، وحبسهم وحبسهن..وإخراسهم وإخراسهن..

كان سيد قطب قد رأي أن الجاهلية ثقافة وليست مرحلة تاريخية، وكان علي حق فيما ذهب إليه، حتي وإن تجاوز المدي في تطبيق ذلك علي المجتمع السياسي برمته..لكننا مجتمع فيه جاهلية..بالتأكيد.

هذه الجاهلية التي تتخفي أحياناً تحت شعارات رنانة من التقاليد أو العرف أو توظيف مفاهيم الدين هي مصدر البلاء..وهي التربة الخصبة للاستبداد، وتضييع مصالح العباد..وتأخر نهضة البلاد.

مشكلتنا أن آفتنا في التصرفات اليومية، وفي التفاصيل المعاشة، ويوم نفلح في أن نصدع بالحق ولا نخشي في الله لومة لائم ونقيم الشهادة لله ولا نخشي سواه سيتغير المجتمع وسيتحول الهرم ...لدائرة..وسينفتح أفق المستقبل ونقيم عالميتنا الثانية، لكن لأننا تولينا ورفضنا أن ننصت فسوف يظل الهرم جاثماً علي صدورنا لأننا ببساطة..قاعدته الراسخة.

اتقوا الله..وادفعوا ثمن الحرية..والكرامة..والعدل.

فهذا هو المطلوب.. فقط.


المصدر